«هناك فرصة للبنان هي الأفضل منذ 100 عام، وقد لا تتكرّر، فإيّاكم أن تفوّتوها». هذه هي «كلمة السرّ» الأميركية الجديدة التي سمعها المسؤولون اللبنانيون في الأيام الأخيرة، كما وصلت إليهم عبر الأقنية الديبلوماسية.
1- خروج القوات السورية من لبنان في العام 2005، من دون «ضربة كف»، بدعم أميركي. وهذا الحدث لم يتوقعه أحد، حتى أكثر المتفائلين، ولو أنّ أثماناً باهظة تكبّدها المعارضون لدمشق، بعمليات الاستهداف الدموية التي طاولتهم. وقد تمّ إحباط هذه الفرصة النادرة، ولم تنجح القوى اللبنانية في تأسيس حياة سياسية طبيعية وسلطة مستقلة بعد خروج السوريين، إذ نجح «حزب الله» في تعويض الخسارة السورية والإمساك بالقرار مباشرة في السنوات التالية، فيما ضعفت منظومة خصومه وتفككت.
2- انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 التي تمكّن «الحزب» أيضاً من إحباطها، معتبراً أنّها أساساً من تدبير الأميركيين وحلفائهم بهدف إضعافه وانتزاع حضوره من داخل السلطة. والمثير أنّ الحصار المالي الذي استهدف لبنان لإضعاف «حزب الله» أدّى إلى كوارث لدى الجميع إلّا «الحزب» لأنّه نجح في الحفاظ على إيراداته الداخلية والخارجية وتدعيمها.
لكن هذه الانتفاضة، أدخلت وقائع جديدة على الحياة السياسية في لبنان، أبرزها حصول قوى «التغيير» على نسبة وازنة من التمثيل النيابي في انتخابات 2022، ورجحان التمثيل المسيحي لمصلحة «القوات اللبنانية»، وتخلّي سعد الحريري عن قيادة الطائفة السنّية. ولكن، على أرض الواقع، بقي «الحزب» ممسكاً بالقرار المركزي وكأنّ الانتفاضة ما كانت، وسارع كثير من خصومه إلى عقد التفاهمات الخاصة معه، ليؤمّنوا مصالحهم.
في النموذجين، 2005 و2019، انحصرت المواجهة الفعلية بين محورين خارجيين: الولايات المتحدة وحلفائها مقابل إيران وسوريا. لكن الحجارة التي تحرّكت على رقعة الشطرنج لبنانية: «حزب الله» وخصومه. وبقيت إيران تعيش نشوة الانتصار لأنّ أحداً لا يستطيع إضعاف «حزب الله». كما ترسّخ لدى الأميركيين اقتناع بصعوبة المعركة ضدّ إيران و»الحزب» في لبنان. بل إن بعض المناخات الأميركية كان يحمّل قوى 14 آذار و»التغيير» مسؤولية الفشل لأنّها قصّرت في تنظيم خطواتها وشرذمتها المصالح الخاصة.
طبعاً، هذه القوى لم توافق على «اتهامها» بالتقصير والأنانية، وكانت تقول للأميركيين: تريدوننا أن نواجه باللحم الحي تنظيماً مدججاً بالأسلحة على أنواعها، تخشاه إسرائيل، ويتلقّى دعماً مفتوحاً من طهران. وهذا أمر صعب. وقد حاولنا «لبننة» «الحزب»، لكن قوته الفائقة تسمح له برفض كل التنازلات. وإذا كنتم كدولة عظمى جادين في مساعدتنا، أوقفوا على الأقل تدفق السلاح الإيراني إلى لبنان، وبعد ذلك يصبح كلامنا ممكناً مع «الحزب».
إذاً، على مدى عقدين، تبادل الأميركيون وحلفاؤهم رمي المسؤوليات عن الفشل في مواجهة «حزب الله» في لبنان. بل إنّ قوى 14 آذار و«التغيير» استاءت من أنّ واشنطن أبرمت في العام 2022 صفقة ترسيم الحدود بحراً بالتفاهم مع «حزب الله» دون سواه، وكانت تحاول إبرام صفقة مماثلة معه في البرّ لولا انفجار الحرب في غزة، خريف 2023. وأما موفدها عاموس هوكشتاين فبقي يتوسط بين «الحزب» وإسرائيل أشهراً ويغريه بالتسهيلات لوقف «حرب المساندة»، ولكن عبثاً.
في المقابل، تعتبر الولايات المتحدة أنّها كأي دولة أخرى مضطرة إلى التعاطي مع الأمر الواقع لإنجاز التوافقات الإقليمية، وأنّ مفاوضة «الحزب» لا بدّ منها لأنّه هو صاحب القرار الحقيقي في بيروت، ومن دون رضاه لا تجرؤ الحكومة على اتخاذ أي قرار.